الطراز المعماري

imageبلدة عرقة 2024-05-16 11:53:23

إبراهيم الجميعة – مجلة الفيصل العدد 383

تميزت الطرز المعمارية للبناء في المناطق التي تقع على مجرى وادي حنيفة ( الممتد على مسافة 200 كم من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي والذي تقع مدينة الرياض في منتصف المسافة منه )  باستخدام المواد المتوافرة في البيئة ، كما أن نوعية البناء كانت تتماشى مع متطلبات الطقس والمناخ التي تعيشها المنطقة من حيث الحرارة والبرودة صيفاً وشتاءً ..

لذا فإن مادة البناء الأساسية كانت اللبن المصنوع من الطين الذي كان يجلب من الأودية والمتوافر بكميات كبيرة ، وأساسات البناء من الحجر المقطوع من المنطقة نفسها ، وقد ساعد هذا النمط المعماري على تلطيف الجو خلال فصل الصيف ، وسرعة التدفئة في الشتاء ، لكون المواد الطينية المستخدمة تتميز بهذه الخواص .

كانت لي زيارات سابقة لبعض مناطق الوسطى منذ نحو ثماني سنوات ، وكانت المباني بحالة مقبولة نوعا ما وجيدة أحياناً ، إلا أن زيارتي الأخيرة هذه السنة رأيت فيها ما يحز في النفس من اندثار عدد من هذه الأبنية ، لتنحصر بذلك محاولة توثيقها ودراستها فيما تبقى منها ، وقد رأى فرانك لوبد رايت في كتابه المنشور عام 1941 م والمعنون Wright On Aartchitecture أن أي دراسة حقيقية للفن المعماري مازالت تعتمد على دراسة العمارة الشعبية في المناطق المختلفة من العالم ، لذا كان اعتمادي في هذا الاستطلاع على صور بعض هذه المباني لنعرف النمط المعماري المتبع في مناطق وادي حنيفة ، متخذين مدينة عرقة نموذجاً ، مع أن غالبية منازلها الطينية -للأسف- أصبحت مهدمة أو في طريقها إلى الزوال بسبب هجرها والعوامل الطبيعية التي تمر بها .

اتصلت عرقة حديثاً بمدينة الرياض بعد اتساع نطاق العاصمة ، وهي تقع على وادي حنيفة شمال الرياض وجنوب محافظة الدرعية بنحو 20 كم ، وهي من قرى اليمامة التي لم تدخل في صلح خالد بن الوليد يوم مسيلمة ، سكنها بنو عدي بن حنيفة وكانت مسرحاً لحرب دارت بين جيش الأمير عبد العزيز بم نحمد بن سعود وابني دهام بن دواس عام 11185 هـ .

يطلق عليها عَوْقَة وحرفت الكلمة إلى عَرِقَة أو عرفت فيما بعد بـ عِرْقة .

كانت في عهد الملك عبد العزيز محصورة في أحياء الظهيرة والصنع والقلعة ، وامتدت بعد الاستقرار الأمني لتشمل عددًا من المزارع والمباني المترامية بحسب تنامي السكان آنذاك .

كانت محاطة بأبراج مراقبة تسمى مربعة ، والمرابيع فيها ثمان : مربعة القلعة ، ومربعة العبيدية ، ومربعة المويسلية ، ومربعة الظهيرة ، ومربعة الغريب ، ومربعة المضيجر ، ومربعة أم قصيبة ، ومربعة المسعودية .

أما أسوارها التي تحيط بها فكان لها أربعة أبواب ، يسمى كل منها دروازة وجميعها اندثرت مع مرور الزمن وعدم الحاجة إليها :

 - من الشمال دروازة ابن ثنيان .

- من الجنوب دروازة المقصورة .

- من الشرق دروازة الإمام تركي .

- من الغرب دروازة الشعيب .

إن العناصر المعمارية التي اتّبعت في بناء دور السكن غلب طابع النفع فيها على طابع الجمال ، إلا أنها تبين المشاعر والأحاسيس التي كانت تسود قاطنيها ، وتوضح ملامح الطباع والتقاليد ، وتعد سجلاً شاهدًا على مدينة الشعوب ونهضتها ومدى حاجتها إلى هذا النمط المعماري بحسب ازدهارها وأمنها ، ولعلنا هنا من خلال وصفنا لعناصر البيت الطيني نستشف حاجة الساكن إلى هذا النوع من البناء . 

المواد المستخدمة

لجأ البناء إلى استخدام المواد المتوافرة لديه بحسب طبيعة المنطقة ، ومن ثم فإن موقع عرقة على وادي حنيفة جعل المادة الأساسية في البناء الطين ( اللبِن ) وهو يتم بخلط الطين والتبن ليلاً ، ومع طلوع الشمس يبدأ اللبّان بصنع اللبن في قالب من الخشب ليكون مقاس اللبن واحدًا ، مما يساعد على تراص الجدار ، وبعد تركه في الشمس لمدة تصل إلى ثلاثة أيام يتم البناء به .

واستخدم البنّاء اللبن في الأساسيات في بداية الأمر حيث يتم وضع لبنتين متجاورتين كأساس ، ثم يتم البناء عليهما بحسب ارتفاع المبنى ، فإذا ارتفع البناء بمتوسط عشرة أذرع أو ثمانية يحضّر الأَثْلُ المعد للتسقيف .

أما السقف فتستخدم فيه عادة جذوع الأثل ، وهو متوافر في المزارع في المنطقة ، ويقطع بأطوال متناسقة بحسب أطوال الغرف ، كما يستخدم جريد النخل الذي يصفّ فوق جذوع الأثل المستخدمة في السقف ، والغرض من جريد النخل حِفظ الطين من التساقط ، وليعطي نوعاً من التماسك والعزل للأسطح ، ثم يوضع الطين عليه بسماكة تقارب 20 سم بشكل متساو .

بعد انتهاء هذه العملية يقوم البنّاء بالتشييع ، وهو سد ثغرات اللبن في الجدار ليتساوى مستوى الطين  في الجدار قبل الصقل ( التلييس ) بالطين الناعم والتبن للجدران من الداخل والخارج .

تطور البناء نسبياً خصوصاً في الأساسات ، وقد ساعد على ذلك وجود قاطعي الحجر من المناطق القريبة ، فعمد البناء إلى بناء مجموعة من الحجر بشكل متراصّ : نحو أربع إلى خمس حجرات بحسب طبيعة الأرض أو قربها من المياه ، ومن ثم يتم بناء الجدران بطريقة البناء السابقة .

الأبواب 

الأبواب جميعاً من الخشب ، ويتميز الباب الخارجي بالألوان الزاهية المنقوشة ، ويغلب اللون الأحمر على ألوان الزخرفة مع تداخلات باللون الأزرق والأخضر والأصفر ، بأشكال هندسية متجانسة تخلو من الصور الآدمية والحيوانية .

وكذلك يزخرف باب مجلس الرجال ( القهوة ) أما بقية أبواب الغرف فتكون غير مزخرفة لعدم الحاجة ولبعدها عن أنظار الزوار ، وقد كان للمنزل باب رئيس وآخر خلفي لأعراض المنزل ودخول النساء أحياناً ، لإعطاء نوع من الخصوصية . لم نجد في موقع الزيارة أي نموذج للأبواب ، وإنما تم استبدال أبواب حديدية حديثة بها ، ربما بسبب الإقبال على شراء هذه النوعية من الأبواب في السنوات العشرة الأخيرة . 

المداخل 

لصغر البيت في منطقة الزيارة فإن مداخل البيوت على تهدمها لم تتميز بالاتساع الذي كان يتميز به البيت الطيني ، بل كانت المداخل الرئيسية صغيرة وإن كانت تأخذ الطراز نفسه ، حيث نجد القهوة على يسار الداخل إلى المنزل ، وينتهي المدخل أو ما يطلق عليه الدهليز بجدار لإحدى الغرف ، أو بحاجز جداري بارتفاع مترين تقريباً ، ولحجب فناء المنزل عن أنظار الزائر لإعطاء الخصوصية لأهل الدار . 

مجالس الرجال 

وهو مكان الضيافة ، وعادة تكون هذه المجالس على يسار المدخل ، ولها أبواب ذات زخارف ولكن بقدر أقل من الباب الخارجي ، وبناؤها مربع الشكل يتم تلييس جدرانها الداخلية بالجبس الأبيض ، ونجد أحياناً فتحات في الجدار ( الكوة ) لتوضع فيها الكتب أو الحاجات أو السرج ، كما يبنى في المجلس ( الكمار ) وهو ألواح خشبية مغروسة بالجدار وبارزة عنه بارتفاع متر ونصف المتر تقريباً على شكل أرفف تثبت بالجبس ، ويتم صف أدوات إعداد القهوة من الدلال والأباريق لإبداء الترحيب بالضيوف ، ولإعداد القهوة في حضورهم أحياناً ، أما أسفل هذا الكمار فيوجد الوجار ، وهو مبني من الجبس بارتفاع 10 – 15 سم عن الأرض ، ويبعد 70 سم عن الجدار لإيجاد مكان لمعدّ القهوة ، والغرض من الوجار إيقاد النار فيه لتحميص القهوة وتسخين المياه وللتدفئة أيام الشتاء ، وأحياناً يلحق به مروحة لنفخ النار للتسريع في اشتعالها . أما الدخان الناجم عن هذه العملية فيتم إخراجه عن طريق فتحة في السقف تقع مباشرة فوق الوجار ، وتسمى السماوة أو الكشاف ، ويتم التحكم في فتحها عن طريق حبل يتدلى إلى مكان الجالس في محل إعداد القهوة ، حيث إن الحبل مربوط بالكشاف . وقد وجدنا نموذجاً آخر في غرفة يتمثل في نافذة صغيرة في الجدار تعلو الكمار . 

الغرف

لم تكن الغرف كثيرة في المنازل التي تمت زيارتها ، وإنما كانت تتكون من غرفتين إلى ثلاث غرف في الدور الأول ، وأحياناً نجد غرفة في الدور العلوي تسمى الروشن . وهذه القلة ربما كانت لصغر الدور التي تمت زيارتها .

الجصة

وهي غرفة صغيرة تستخدم لحفظ التمر لمدد طويلة ، وأبعادها تقريباً 50 x 50 x 180 سم ، ولها فتحة ترتفع عن الأرض لحمايتها من الحشرات والأطفال ، وتُصقل جدرانها بالجبس من الداخل والخارج ، ولها باب صغير ، ويوجد ثقب وهو مخرج الدبس ( عسل التمر ) الناتج من ضغط التمر الذي يستخدم مادةً غذائية .

كما يبنى في إحدى الحجرات في الدور الأرضي أحواض من الحجر ليوضع فيها كل صنف من الحبوب على حدة . تزين الجدران الداخلية والخارجية للغرف أحياناً بفتحات صغيرة ( فرج ) على شكل مثلث ، وتكون متقاربة تأخذ في شكلها العام الهرم ، وهي تعطي الإضاءة والتهوية مع عدم تسرب الدفء خلال فترات الشتاء . 

الفناء 

عادة يكون في وسط البيت فناء ( بطن الحوي ) صحن الدار ، وكلها أسماء للفناء ، وعلى جوانبه الغرف ، ويقوم الفناء بوظائف رئيسة من حيث التهوية وإكساب الضوء ، لأنه مكشوف من دون سقف ، فنجده في الصيف يعطي برودة للغرف المحيطة به ، حيث إنه إذا تعرض الصحن الداخلي لأشعة الشمس الحارة فإن الهواء يسخن ويقل وزرنه ويرتفع إلى أعلى ، ومن ثم تتكون حركة شفط للهواء البارد من خلال نوافذ الحجرات ليحل محل الهواء الساخن . ويطل على أبواب الفناء نوافذ الغرف وهي كبيرة نوعاً ما ، وكذلك أبوابها ، كما أن للفناء أدوارًا أخرى ، فهو ملتقى العائلة ومكان لهو الأطفال أمام أنظار الأهل وعنصر الحركة داخل المنزل ، ويستخدم لأغراض الطبخ في حالات الولائم الكبيرة .

 السطح 

أسطح المنازل ذات ارتفاع بسيط ، فعلى الرغم من تلاصق المنازل فإن التقارب الاجتماعي السائد والأمان خلال تلك الفترة لم يجعلا البنّاء يعمد إلى رفع الجدران للأسطح ، وقد وضعت ( المرازيم ) في أماكن متفرقة من السطح لتخلص من مياه الأمطار وعدم تأثيرها في البناء ، وقد استخدم السطح للنوم خلال الصيف ولبعض المناسبات الكبيرة . وقد ( لُيّست ) أطراف الجدران فيما بعد للتخفيف من آثار المطر على الطين المستخدم في البناء . ومع تطور البناء بنيت المنازل الطينية الواسعة ذات النوافذ المتعددة الكبيرة الحجم والمطلة على الشارع ، كما استخدم الحجر المقطوع في البناء بعد توافر قطّاعي الحجر فأقيمت المنازل بكاملها من الحجر ، وكذلك المساجد كما نلاحظ في الصور .

كما تعددت  النوافذ المطلة على الشارع ، وعُلّيت الجدران ، واستخدم الإسمنت بدلاً من الطين بين الأحجار ، وذلك قبيل ظهور النمط الحديث للمنازل .

إن هذه النظرة السريعة ربما تحمل في طياتها رسالة موجهة إلى القائمين على البلديات سواء في السعودية بمختلف مناطقها أو محافظاتها أو الوطن العربي عامة لإبقاء نماذج من العمارة التقليدية لتستفيد منها الأجيال القادمة .