قَبل السابِع مِن مارس ، وقَبل السَاعة الثَانية ، التِي تَوقفت على حَائط ذَاك الجِدار العَتيق ، وقَبل أن تُوضعَ جَريدةُ الصَباح عَلى عتبة البَاب كَالعادة ، وقَبل أن يُلقي ساعي البَريد تَحيته ، وَ يوزع رسائلاً للعاشقين ، قَبل الوطن الذِي صارتْ تُسقى
أرض مدينته بِدماء الشُهداء ، وَتتخمُ مقَابرهُ
بأجسادِ الصِغار ، قَبل الوجَع ، قَبل الحُمى ، وَقَبل البكاء ، قَبل أَزهار البَساتين ، وَقبل أشجار الرُمان اللذيذة ، قبل أن تَبدأ مراسم العزاء ، وقبل أن تملئ الأزقة برائحة المَوت .
- فِي تِلكَ المَدينة ، تَقف فَتاة ريفية ذات شعر أسود كَما الليل في ظلمته يَتلاعب النسيم بخصلاتِ شعرها النَاعم ، تُغني للطيور أغاني السلام ، تَسقي أرضها الساحرة بِماء دمعها الحَزين ، تِلك الفَتاة التِي لاتعرف أين يباع النسيان ، وأين تردد أهازيج الأشواق
- تتأمل ذَلكَ الحَقل الذيّ أصبح هَشيماً تَذروه الرياح ، ذَابلاًً كَأيام الخَريف ، هَزيلاً فِي مساءاتِ الشتاء ، تُديرُ جَسدَها النَحيل تَلتقي عَينيهَا الواسعَتان بـِ كُوخهَا الصَغير تَدلفُ داخلهَ تَنظر إلى نوافِذه المؤصدة ، إلى البَراوز المُعلقة
تَعود بَذاكرتِهَا إلى الوراء ، عِندمَا تَستيقظ
بَاكراً ، وتَستقبل يَومها بَصوتِ أمها الحَانِي ، وَقبلاتها الدافئة ، وَخبزها الشهي الذي تُجيد صُنعه ، تُلقي تحية على عصفورهَا الصَغير وَتطعمه ثم تُودعه ذَاهبه ، تَحمل قُبعتها ، وكتاباً وَرسائل تَحرص على ربطها جيداً
- عند الباب تُقبل جَبين أبيها وهِي تقول: وَداعاً أبي يوم سعيد أتمانه لقلبك الحاني
يَرد عَليها بِقبلة عميقة : وَداعاً ياحبيبة أبيكِ ، يوم ممتع ياصغيرتي .
- تَرجعُ بعدهَا تَحتضنهما بِيديهَا ، تَأخذُ بيدها والدتُها تَمسد شَعرها تجدل ضفائرها برقة ، ثم تَعرجُ بِهَا إلى غُرفتهَا تَحكي لهَا حكاية ، تَبتسم بَحالمية فيسرقهَا النوم بِهدوء .
- تَستيقظ كَعادتهَا ولكن على أزيز قوي وَصوت صاخِب مرعب ، تهرع سريعاً مِن فراشهَا الوفير ، تتعثر وتسقط تَنزل إلى الأسفل ، تَنظر إلى مَنزلهم الذي أصبح كومة حطام لاأكثر
تَصرخُ بخوف: أمي .. أمي .. أبي .. أبي
تذهب لتبحث عَنهم ، تُبصر أمهَا وأبيها وهما ملقان في مكان قصي هُناك ، تركض وتصرخ بهما لايجيبان
تُردد بصوتٍ مخنوق: أمي أرجوكِ أجيبيني أمي لاترحلي عنِي ، أمي أنا جائعة جداً
ألن تصنعي لي خبزكِ الشهي وكوب الحليب الساخن اللذيذ ، أمي ألن تجدلي شعري وتحكي لي حكاية ، أمي ألن تضميني بين يديك ألن تمسحي أدمعي ، أمي أرجوكِ تكلمي لاتصمتِ هكذا ابنتكِ تموت من غيرك تموت .
تلقي نظرةً عميقة عليها ومن ثم تُمسك بيدي
أبيها وتقول بألم: أبي أبي استيقظ أرجوك ، لاتفعل مثل أمي أنتما نائمان أليس كذلك أبي أرجوك افتح عينيك أريد أن أراهما ، أبي لقد نسيت قبلتك التي تطبعها على جبيني كل صباح ، أبي اليوم هو العيد ألن تحضر لي هدية ؟ ، أبي ألن تقرأ لي كتاباً ألن تشتري لي حلوى لأوزعها على الأطفال ، أبي لقد طال نومك ، أبي استيقظ أرجوك ، أبــي
تصرخ بغصة ودموعها الغزيرة تملئ خديها:
لاتغيبا عني لاتغيبا إلى الأبد دون رجعه ، أرجوكما فأنا أحبكما ،
بل أعشقكما وأكثر
لحظة صمت!
صوت القصف يَضج فِي أحَياء الشَام
تُغطي أذنيها بِقوة ، دفنت وجهها فِي صدر والدتِهَا بِذعر ،
تبكي بصوت ضائع بين أبويها ، فقد سُرق صوتَها البرئ مِنها ،
وأصبح لاَيعرف أحرفاً للحديث .
- يَأتِي السَابع من مَارس
وَمازالتْ الأروح تُسلب ، والأبصارُ تَشخَصُ
إلى السماء مودعةً بَقايا أَرضٍ تآكلت قَهراً وَظلماً .
- حَرف الحُلم العَذب .
!al7lm